الكسوف والخسوف (الخوف من العذاب)
الكسوف والخسوف، والظواهر الكونية عموماً، هي من جند الله التي يرسلها لعباده تخويفاً، لما فيها من تجليات عظمة الخالق سبحانه وقدرته، وفي هذه المقالة تبيانٌ لحقيقة هذه الآيات، وكيفية تعاطي المسلم معها
الشمس والقمر آيتان، وإذا وقع الكسوف أو الخسوف كان ذلك تخويفا من الله تعالى لعباده، وتنبيها لهم، ولو كان يُعرف وقوعهما بالحساب؛ لأن الذي خلقهما وسيرهما، وقدَّر الكسوف والخسوف فيهما، هو الذي أخبرنا بأنهما آيتان من آياته سبحانه، وقد قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}.
موجبات خوف الإنسان من الله تعالى كثيرة؛ فإن الإنسان لم يملك وجوده في الأرض، ولا يملك حياته ولا موته ولا نشوره، وهو كذلك لا يملك صحته ومرضه، ولا غناه وفقره، ولا أنسه وبؤسه، ولا فرحه وحزنه، فذلك محله القلب، والقلوب يملكها الله تعالى فيقلبها كيف يشاء، ويحول بينها وبين ما يشاء.
وكل ما يعمله الإنسان في حياته من عنايته بنفسه، وبناء أسرته، وحرصه على رغد عيشه، وتخطيطه لمستقبله؛ فإنما هي أسباب يعملها، وفوقها رب عليم قدير يقدر ما يشاء، ولا خروج للعبد عن قدره {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] فإذا كانت دنيا الإنسان بكل تفاصيلها خاضعة لأمر الله تعالى، وهي تحت حكمه وقدره سبحانه، وكان عجز الإنسان وكيسه بقدر، وكان مصيره في الآخرة بقدر؛ وجب على العبد أن يخضع لصاحب القدر، وأن يخاف منه، وأن يحبه ويرجوه؛ لأن كل نعمة أصابها فبقدره سبحانه، وكل مكروه صرف عنه فبقدره عز وجل {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وما يصيبه من مصائب فبقدر الله تعالى، وسببها ذنوب العبد {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
والخوف من عذاب الله تعالى هو دأب الصالحين من السابقين، والنبيين والمرسلين، يردون البلاء بالدعاء، ويدفعون العذاب بالتوبة والاستغفار، ويحصنون أنفسهم من العذاب بطاعة الله تعالى، ويعلنون خوفهم منه سبحانه. وفي قصة أول خلاف بشري على الأرض، كان الخوف من الله تعالى حاضراً في قلب أحد الخصمين، فحال خوفه من الله تعالى بينه وبين الإثم، وقال {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]. ما أكبره من جواب، وما أعظمه من تعليل {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} زُهقت نفسه فداء لخوفه من الله تعالى، والخوف من الله تعالى منزلة تستحق التضحية؛ ليظفر صاحبها بالمنازل العالية في الجنة.
ثم تتابع الرسل -عليهم السلام- في دعواتهم لأقوامهم على التذكير بالخوف من عذاب الله تعالى، فقال نوح في دعوته لقومه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26]، فلما لم يخافوا الله تعالى أهلكوا بالطوفان العظيم. وقال هود -عليه السلام- في تذكيره لقومه {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135]، فلما لم يخافوا الله تعالى أهلكوا بريح صرصر عاتية. وقال شعيب -عليه السلام- في تذكيره لقومه: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]، فلما لم يخافوا الله تعالى أهلكوا بعذاب يوم الظلة {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189].
ووقف الخليل -عليه السلام- أمام أبيه ناصحاً وواعظاً ومحذراً إياه من العذاب فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45]، فلما لم يخف الله تعالى أُخذ بقوائمه فألقي في النار كما في الحديث الصحيح. ووقف مؤمن آل فرعون ينذر قومه، ويخوفهم عذاب الله تعالى، ويذكرهم بما حل بمن كانوا قبلهم {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 30- 31]، فلما لم يخافوا الله تعالى أطبق سبحانه البحر عليهم فغرقوا.
قرآن نتلو آياته ونسمعها كل حين، وفيها أخبار من لم يخافوا الله تعالى وما حلّ بهم، فأين القلوب عن تلكم الآيات؟ ولماذا يسير كثير من الناس سيرة من أمنوا عقاب الرب سبحانه، هل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب، وتحل بهم المثلات؟
وربنا سبحانه حين بعث نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رباه بالقرآن على الخوف منه عز وجل، وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13]، وفي موعظة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكفار مكة وتخويفهم من العذاب قال لهم: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]، فلما لم يخافوا الله تعالى حلَّ بهم العذاب في بدر، وأُمر الملائكة بالانتقام منهم {فاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، ففعل الملائكة عليهم السلام ذلك بهم {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [الأنفال: 50- 51]، فألقوا في قليب بدر، وعذاب الأخرة أشد وأبقى.
لقد أغواهم الشيطان، وصدهم عن قبول الدعوة، وأمنهم من عذاب الله تعالى، فركنوا إليه ولم يخافوا العذاب {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] ولكن الشيطان تخلى عنهم وتركهم يواجهون مصيرهم {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]. يا للعجب! حتى الشيطان لما عاين العذاب خاف، فأين خوف الناس أين، وهم يقرؤون هذه الآيات البينات؟ وجعل الله تعالى قتلى بدر وخذلان الشيطان لهم مثلا لمن بعدهم حتى يرعوي الآمنون من مكر الله تعالى، فقال سبحانه: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 15- 16].
الشمس والقمر آيتان من آيات الله تبارك وتعالى، وإذا وقع الكسوف أو الخسوف كان ذلك تخويفا من الله تعالى لعباده، وتنبيها لهم، ولو كان يُعرف وقوعهما بالحساب؛ لأن الذي خلقهما وسيرهما، وقدَّر الكسوف والخسوف فيهما، هو الذي أخبرنا بأنهما آيتان من آياته سبحانه، وقد قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» (رواه الشيخان). وبلغ من خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كسفت الشمس أنه خرج فزعاً يجر رداءه، وأخطأ فلبس رداء إحدى نسائه حتى أدركوه بردائه، وأطال الصلاة جدًّا، قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
ولولا أن الكسوف والخسوف يوجبان الفزع والخوف لما فزع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما اشتد خوفه! فحري بأهل الإيمان أن يعتبروا بنذر الله تعالى وآياته، وأن يحافظوا على الفرائض، ويجتنبوا المحارم، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، ويتناصحوا فيما بينهم، ويتواصوا بالحق، ويأخذوا على أيدي السفهاء منهم؛ لئلا يحل بهم العذاب فلا ينفع ندم.
ولنا عبرة في قوم يونس -عليه السلام- فإنهم لما رأوا بوادر العذاب ونذره رجعوا إلى ربهم، وتابوا من ذنوبهم، فنجاهم الله تعالى {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]، قَالَ قَتَادَةُ رحمه الله تعالى: «لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ، فتُرِكت، إلا قوم يونس: لما فقدوا نبيَّهم، وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً. فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم».
بخلاف عاد قوم هود؛ فإنهم لما رأوا بوادر العذاب ونذره استبشروا به من شدة غفلتهم وأمنهم من مكر الله تعالى {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24- 25]. فالحذر الحذر – عباد الله – من الذنوب، والخوف الخوف من عذاب الله تعالى، وإياكم والأمن من مكره سبحانه.
إبراهيم بن محمد الحقيل