تفنيد مقولة “الدين أفيون الشعب”
نصٌّ مقتبسٌ من كتاب "مدخل لمعرفة الإسلام" لـ د. يوسف القرضاوي
أمّا دعوى الماركسيين: أنّ الدين (أفيون الشعوب) يفعل في عقولها ما تفعله المخدّرات بالأفراد، ويشغلهم عن حقوقهم المسلوبة، بأماني الآخرة، ويخضعهم لإرادة الظلمة والطغاة، فيطيعونهم وهم راضون ـ فهي دعوىً مردودةٌ ـ .
ذلك أنّ الدين الصحيح لا يخدّر الشعب، ولا يلهيه عن المطالبة بحقّه في الدنيا، استغراقاً بطلب النعيم في الآخرة! الدين الصحيح لا يقرّ الظلم، ولا يرضى بالفساد والانحراف، فإنّ صح هذا الادّعاء في شأن بعض الأديان، فلا يصحّ بحالٍ في شأن الإسلام.
الإسلام في الحقيقة ثورةٌ إنسانيةٌ كبرى، ثورةٌ لتحرير الإنسان ـ كلّ إنسانٍ ـ من العبودية والخضوع لغير خالقه. ثورةٌ في عالم الفكر والضمير والشعور، وثورةٌ في عالم الواقع والتطبيق.
وكان عنوان هذه الثورة هي هذه الكلمة العظيمة، كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله”، فكلّ مدّعٍ أو متعاطٍ للألوهية في الأرض، بالقول أو بالفعل، هو مزوّرٌ لا وجود له، ولا يستحقّ البقاء. وكلّ الذين زعموا لأنفسهم ـ أو زعم لهم بعض الناس ـ أنّهم أربابٌ مع الله، أو من دون الله، يجب أن يسقطوا إلى الأبد، ويتواروا عن مسرح الحياة.
الناس إذن سواسيةٌ، لا يجوز أن يتعبّد بعضهم بعضاً، أو يطغى بعضهم على بعضٍ، فإذا ظلم بعض الناس وطغى وأفسد، كان على الناس أن يعترضوا طريقه، ويأخذوا على يديه، وإلا كانوا شركاءه في الإثم واستحقاق العقوبة العادلة من الله.
قول القرآن الكريم: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].
ويقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “أَلا وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ”.
ويوجب على كلّ من رأى منكراً ـ أي ظلماً أو فساداً أو انحرافاً ـ أن يعمل على تغييره بكلّ ما يستطع من قوّةٍ: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ”.
والتغيير بالقلب ـ الذي هو أدنى الدرجات وأضعف الإيمان ـ ليس أمراً سلبياً تافهاً. إنّها جمرة الغضب والكراهية للفساد والمنكر تتوهّج وتتقد في الجوانح حتى تجد الفرصة للتغيير بالقول أو الفعل، باللسان أو اليد، وأدنى ثمراته العاجلة النفور من الظلمة والمفسدين والمقاطعة لهم، فلا يؤاكلهم ولا يشاربهم، ولا يجالسهم ولا يصاحبهم.
وقد عدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مقاومة الظلم والفساد الداخلي، كمقاومة الغزو والعدوان الخارجي، كلاهما جهادٌ في سبيل الله، بل حين سئل: أيّ الجهاد أفضل؟ قال: “كلمةُ حقٍّ عندَ سُلطانٍ جَائرٍ”. فاعتبر ذلك أفضل الجهاد وأعلاه.
فهذا دينٌ يحرّض على مقاومة الظلم حتى الموت، ويعدّ الميت في سبيل ذلك شهيداً في سبيل الله، بل في طليعة الشهداء المرموقين، بجوار حمزة بن عبد المطلب، سيّد الشهداء، كما قال عليه الصلاة والسلام: ”سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ”.
إنّ الإسلام يربّي المسلم على الشعور بالكرامة وعزّة النفس، ويجعل ذلك من خصائص الإيمان وآثاره: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، بل من خصائص الإنسانية ولوازمها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
ولهذا يبرأ الإسلام من كلّ من يرضى لنفسه بالذلّ والمهانة، ويصبر على القيد يوضع في رجله، أو الغلّ يوضع في عنقه دون أن يقاوم الظلم، أو يحاول التخلّص منه، ولو بالهجرة إلى أرض الله الفسيحة. يقول القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
ويردّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- منطق الإسلام الجبري أو السلبي لأحداث الحياة ووقائع الدهر، باسم الإيمان بالقدر. ويعتبر ذلك ضرباً من العجز المذموم في دين الله. إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”.
كره النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرجل أن يواري عجزه بالحسبلة والحوقلة، بدل أن يواجه الأمر بما ينبغي له من الحكمة والتفطّن. فذكر الله في غير موضعه عجزٌ واستسلامٌ.
ومن هنا جاء في وصاياه -صلى الله عليه وسلم-: ” الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ … احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ”.
وجاء في أدعيته التي علمها لبعض أصحابه: “اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ”.
ففي هذا الدعاء استعاذةٌ بالله تعالى من كلّ مظاهر الضعف التي تعتري الإنسان فتغلبه وتقهره وتذلّه.
ومثل ذلك ما جاء في دعاء القنوت الذي يرويه ابن مسعودٍ، ويقرؤه الحنفية في صلاة الوتر كلّ ليلةٍ: “اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ..”، فانظر ما تحمله هذه العبارة: “وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ” من تحريضٍ سافرٍ على خلع ومقاومة كلّ ظالمٍ فاجرٍ، مهما تكن مكانته ومنصبه في الناس.
فهل يقال في مثل هذا الدين الذي يدعو إلى الثورة على الباطل والضعف والعجز والعبودية، ويحرّض على نصرة الحقّ والقوّة والحريّة ـ إنّه أفيون الشعب: يخدّره ويمنّيه بنعيم الجنّة، ليسكت على مظالم حياته الدنيا؟
لعلّ “ماركس” كان معذوراً حين قال ما قال، لأنّه لم يعرف الإسلام، ولم يعرف موقفه من الظلم والبغي والفساد، مع أنّ المنهج العلمي كان يلزمه ألا يصدر حكمه عامّاً شاملاً إلا بعد استقراءٍ كاملٍ، ودراسةٍ تامّةٍ لكلّ الأديان ـ أو للأديان الكبرى على الأقلّ ـ وأثرها في الأمم على مدار التاريخ، فإن لم يستطع كان عليه أن يحكم على الدين الذي عرفه لا على غيره. هذا هو مقتضى الأمانة العلمية، والمنهج العلمي.